" نعم العبا وحاد : |
بي سهل القريش شاف العلم نادى |
زار جد الحسين |
فرشو له الزبيب والتين والحبحب |
كاسات من حميا قالوا له هاك اشرب |
زار جد الحسين " |
وتختلط زغاريد النساء في حلقة المديح بزغاريد النساء في حلبة الرقص ، وأحيانا يهاجر فريق من حلبة الرقص إلى حلقة المديح . هناك تتحرك أرجلهم ويثور حماسهم ، وهنا تدمع أعينهم ، كذلك يتحول فريق من حلقة المديح إلى حلبة الرقص ، يهاجرون من الشوق إلى الصخب .
وفجأة تنبه محجوب .
أين الزين ؟
كان مشغولا كبقية عصابته بتنظيم الفرح . فاختفى الزين عن عينه .
سأل عنه كلا من الباقين ، فقالوا أن أحدا منهم لم يره منذ قرابة ساعتين . وقال عبد الحفيظ أنه يذكر أنه رآه آخر مرة يستمع للمداحين .
بدأوا يبحثون عنه . دون أن يحس أحد ، مخافة أن يقلق الباقون . لم يجدوه مع الحشد المجتمع مع الإمام في الديوان الكبير ، ولم يكن في حلقة المديح ، ولم يكن مع أي من جماعات الرقص المتناثرة في البيوت . دخلوا المطابخ حيث النسوة يزحفن أمام الأفران والقدور ، فلم يكن الزين هناك .
حينئذ أصابهم الذعر ، فإن الزين قد يفعل أي شيء ، قد ينسى أمر زواجه . ويختفي كعادته .
وتفرقوا يبحثون عنه . فلم يتركوا موضعا . بعضهم ضرب في الصحراء قبالة الحي , وبعضهم ذهب ناحية الحقول ، حتى ضفة النيل دخلوا البيوت بيتا بيتا تفرسوا تحت جذع كل نخلة وكل شجرة .
لم يبق إلا المسجد . لكن الزين لم يدخل المسجد في حياته ، كان الوقت أوائل الليل ، كثيف مظلم . وكان المسجد ساكنا خاويا ، قد تسرب الضوء من مصابيح العرس خلال نوافذه . في خطوط مستطيلة من النور ، انعكس بعضها على السجاجيد ، وبعضها على السقف ، وبعضها على المحراب وقفوا ينصتون فلم يسمعوا حسا ، إلا .
أصوات العرس تتناهى بهم ونادوا باسمه وبحثوا في أركان المسجد وفي ردهاته فلم يجدوا الزين . وفقدوا الأمل . لا بد أنه هرب . لكن إلى أين والبلد كلها مجتمعة عندهم .
وبغتة خطر خاطر في ذهن محجوب ، فصاح : " المقبرة " . لم يصدقوا ، ماذا يفعل في المقبرة في ذلك الوقت من الليل ؟
لكن محجوب سار أمامهم فتبعوه ساروا صامتين وراء محجوب بين القبور ، تتناهى بهم أصوات الغناء والزغاريد عالية واضحة ، ثم خافتة بعيدة . كان المكان بلقعا ، إلا من شجيرات السلم والسيال التي تناثرت بين المقابر ، وامتلأت الثغرات بين فروعها بالظلام فبدت كأنها سفن في لجة ، وفي الوسط بدا الضريح الكبير غامضا مخيفا , وفجأة وقف محجوب وقال لهم : " اسمعوا " لم يسمعوا شيئا أول الأمر ، فأرهفوا آذانهم ، فإذا بنشيج خافت يتناهى بهم .
سار محجوب ، وساروا وراءه . حتى وقف فوق شبح جاثم عند قبر الحنين ، وقال محجوب : " الزين . الجابك هنا شنو ؟ "
لم يرد ولكن بكاءه اشتد حتى أصبح شهيقا حادا .
وقفوا وقتا يراقبونه في حيرة ثم قال الزين في صوت متقطع ، يتخلله النحيب : " أبونا الحنين إن كان ما مات كان حضر العرس " .
ووضع محجوب يده على كتف الزين برفق وقال له : " الله يرحمه . كان راجل مبروك ، لكن الليلة ليلة عرسك . الراجل ما بيبكي ليلة عرسه يا ألله أرح " .
وقام الزين وسار معهم .
وصلوا الدار الكبيرة ، حيث أغلب الناس ، فاستقبلتهم الضجة ، وغشيت عيونهم أول وهلة من النور الساطع المنبعث من عشرات المصابيح ، كانت فطومة تغني ، والدلاليك تزمجر ، وفي الوسط فتاة ترقص ، وحولها دائرة عظيمة فيها عشرات الرجال يصفقون ويضربون بأرجلهم ويحمحمون بحلوقهم . انفلت الزين ، وقفز قفزة عالية في الهواء فاستقر في وسط الدائرة . ولمع ضوء المصابيح على وجهه . فكان ما يزال مبللا بالدموع . صاح بأعلى صوته ويده مشهور فوق رأس الراقصة : " أبشروا بالخير ..أبشروا بالخير" وفار المكان ، فكأنه قدر تغلي . لقد نفث فيه الزين طاقة جديدة . وكانت الدائرة تتسع وتضيق تتسع وتضيق ، والأصوات تغطس وتطفوا والطبول ترعد وتزمجر ، والزين واقف في مكانه في قلب الدائرة ، بقامته الطويلة وجسمه النحيل ، فكأنه صاري المركب .